هذه المناورات الضارة .. هل نزرعها في نفوس أولادنا ؟
بقلم : ذ.محمد لمعاشي
هل نزرع في أبنائنا ، دون أن ندري - وبنية حسنة - جذور الأنماط الضارة في التعامل مع الآخرين ، والتي تفرض عليهم طوالي حياتهم ، وتجلب لهم المتاعب في كل مكان ؟
عندما نلقن أطفالنا مبادىء الأخلاق الحميدة والسلوك الطيب ، هل نفعل ذلك بطريقة ترسخ لديهم عادات التعامل السيئة ، التي تتسلل الى تركيبهم الاجتماعي بطريقة لاشعورية ، وتظل تلاحقهم بعد بلوغهم وتفسد عليهم حياتهم الزوجية والعملية ؟ هذا سؤال أتصور أنه يجب أن نحاول الاجابة عنه :
فالمعروف أنه عندما يفشل الأطفال والبالغون في التكيف مع الظروف التي يعيشونها ، فان فشلهم هذا يرجع الى نمط التعامل مع الاخرين الذين تعودوا عليه خلال السنوات السابقة ، والذي يمارسونه دون أن يدركوا طبيعته ، بشكل لاشعوري . هذا النمط الخاص أو الشخصي في التعامل مع الآخرين يعتبر ظاهرة غير صحية. لا يمكن التخلص منه الا اذا جرى أولا تحديده، واتيح لأطرافه ، أن يعوه بشكل شعوري ، ثم لابد بعد ذلك من ايقافه ، لكي تحل محله انماط سوية في التعامل هذا هو جوهر المدرسة الحديثة في مجال علم النفس الاجتماعي ، فبينما كان سيجموند فرويد يهتم بما يجري (داخل)الفرد ، جاء سوليفان - رائد المدرسة الحديثة ليصب اهتمامه على ما يجري (بين) الأفراد ويعود الفضل في تبسيط واشاعة هذا الفهم الجديد الى العالم النفسي اريك بيرن ، الذي استطاع أن يضع يده على مجموعة من هذه المناورات الضارة ، والالعاب الخطرة، التي نمارسها في حياتنا اليومية ، والتي تكون مسؤولة عن معظم ما يعكر حياتنا ، ويعقد علاقاتنا مع الآخرين ، في البيت ، وفي العمل
الانسان لا يستطيع أن يعيش بشكل صحي في عزلة عن الآخرين ، هذه حقيقة ثابتة تتأكد لنا من حاجته الشديدة الى انشاء العلاقات مع البشر من حوله .. وهذا الاحتياج يبدو أكثر وضوحا والحاحا عند الطفل . ومن الطبيعي أن يكون المجال الأول للطفل ، والذي يتم فيه تأسيس انماط علاقاته مع الآخرين هو البيت ، من خلال التعاملات التي تجري بين الطفل من ناحية وبين الوالدين والاخوة من ناحية أخرى.
و هذا يضع مسؤولية كبرى على عاتق الوالدين ،تقتضي منهما ادراكا كاملا لأنواع المناورات التي تدور في البيت ، ووعيا بأساليب التعامل مع الطفل التي قد تؤدي الى تثبيت الانماط السلوكية الضارة لديه ... وقد اكتشف اصحاب المدرسة النفسية الجديدة ، أن الصفات الأساسية التي تحدد شخصية الفرد تنمو تدريجيا خلال سنوات حياته العشر الأولى ، على اساس أنماط التعامل مع الآخرين.
كلما كان أطراف التعامل لا يدركون طبيعة النمط الضار الذي تجري على أساسه تعاملاتهم، زاد احتمال ظهور أشكال التعامل غير الصحية المزمنة.
أضف الى ذلك أن أنماط العلاقات البشرية غير الصحية التي نطلق عليها اذا تكرر حدوثها لفظ (المناورات) تميل الى الظهور خلال فترات التوتر التي يمر بها أطراف التعامل.
لكي نفهم ذلك نبدأ بتأمل هذا الحوار الذي يدور بين أم وابنها الذي في الرابعة من عمره :
الام : هل القيت هذا المقص في مهد اختك الصغيرة ؟
الابن : لا...
الام : بل نعم .. لقد فعلت هذا . اذا لم تكن أنت ، فمن الذي فعل هذا ؟ الا تعلم انك يمكن أن تؤذيها بهذا ؟
الابن : أنا لم أفعل ذلك.
الام : من الذي فعلها إذن . . كان من الممكن أن تقتلها ، كيف كنت تشعر حينئذ ؟
الابن : شخص آخر هو الذي ألقى المقص في سريرها...
الام : من ؟ .. قل لي من ؟ .. انت تكذب.
الابن : على أي حال فهي سليمة لم يصبها أي أذى..
الام : اذن فأنت تعترف بأنك القيت المقص.
الابن : لا .. لم أفعل هذا...
الام : انتظر حتى يصل أبوك الى البيت سأخبره ، سأقول له انك فعلتها ، وكذبت بعد ذلك.
الابن : لقد ضربتني..
الام : كيف يمكن لطفلة رضيع أن تضربك ؟ ها أنت تكذب ثانية الابن : لست كذابا...
ماذا ترى في هذا الحوار ؟ ربما يكون قد تكرر أمامنا ما يشبهه أكثر من مرة ، دون أن نجد فيه ما يستوقف النظر ، أو يدعو الى التأمل . لكن المدرسة النفسية الجديدة ترى فيه مؤشرات خطيرة . وتنظر الى هذا التعامل نظرة مختلفة.
أول حقيقة تكشف عنها مدرسة تحليل التعاملات هو أن هذا الحوار يكشف عن عدم وعي الأم أو الابن بالموضوع الأساسي الذي خلق ذلك الحوار . الام تؤنب الابن وتهدده ، وهو يكذب ، ويتحول الى طفل خائف متجهم ، وهكذا تبقى المشكلة الأصلية دون حل.
قياسا على موقف الأم الذي طرحناه ، يمكنها أن تواصل الحاحها على ابنها لعدة دقائق اخرى ، أو ساعات ، أو أيام. ونتيجة لذلك تتضاعف عدوانية الابن تجاه اخته الصغيرة. ومثل هذا الموقف اذا تكرر من الام والاب بالقدر الكافي ، فانه يشكل لدى الابن بالتدريج ، نمطا مختزنا وغير صحي للتعامل مع الآخرين ، وهو ما يطلقون عليه تعبير ( المناورة ) وهو يمضي في استخدام هذه المناورة مع اخته خلال سنوات طفولته ، ثم بعد بلوغه ، مما يضاعف المشاعر العدوانية بينهما.
دعنا نرى الآن ما كان يجب أن يكون عليه الحوار السابق ، إذا ما كانت الأم واعية بجوهر الموضوع الذي تتصدى له.
الام : لقد وجدت مقصا في مهد أختك . ولانه لا يوجد في البيت سوانا ، ولأن المقص لم يكن موجودا منذ عشر دقائق فقط ، فلابد أن تكون أنت الذي فعلت هذا.
الابن : لقد ضربتني...
الام : هذا غير صحيح ، وأنت تعلم ذلك لكننا لن نمضي في هذا الآن ، المسألة الأساسية هي أنك تخاف أن يقل حبنا لك أنا ووالدك عن حبنا لاختك الرضيع .. لهذا انت غاضب على اختك الابن : على أي حال . . ما هي حاجتنا اليها ؟ الام : ان نحبها ، لقد أصبحت الان ضمن الكبار في اسرتنا . وكما احببناك ، أنا ووالدك ومازلنا نحبك بنفس القدر ، علينا نحن الثلاثة أن نحب الصغيرة . وأيضا لانك أصبحت الآن واحدا من الكبار ، عليك أن تساعد في رعايتها...
الابن : ماذا يمكنني أن أفعل ؟
الام : أحضر ذلك الدب اللعبة الذي جاءت به خالتك ، وضعه الى جوارها في السرير، في عمرها هذا لن تعرف ماهو الدب ، لكنني واثقة أنها ستحب فروه الناعم .
الابن : سأضع الدب الى جوارها.
الام : شكرا..
في هذا الحوار كانت الأم (واعية) بمصدر انزعاج الطفل ، لهذا نراها تتكلم معه في صلب الموضوع ، وتكشف له المسألة التي تعذبه ، فتجعله ( واعيا ) بها ، قبل أن تجسد الأم لابنها مشاعره بالكلمات، وأغلب الظن أن الابن لم يكن يعي ما يثيره مولد اخته الصغرى من غضب وفقدان للامان.
لقد طمأنت الام ابنها بالنسبة لمخاوفه . اخبرته أن حبها وحب أبيـه لــه لم يتناقص بمقدم الأخت الصغيرة . ثم رسمت له دورا جديدا في حياة الرضيعة لا يتسم بالتنافس . بأن جعلته ابا اضافيا ها . هذا لم تعد الاخت الصغيرة مصدر تهديد له فأختفى غضبه عليها.
وأخيرا احلت الام نشاطا صحيا سليما محل النشاط غير الصحي الذي كان الابن يمارسه فطلبت منه ان يقدم لاخته الدب في مهدها ، بدلا من القاء المقص فيه.
ويمكن أن نحصر الموقف في النقاط الاربع التالية :
من هذا المثال نرى أهمية حرص الوالدين على الوصول الى ادراك متزايد ، وفهم عميق لطبيعة التعاملات التي تتم في اطار الاسرة ، لكي لا يساهمان من حيث لا يدريان في تثبيت أنماط التعامل الضارة لدى الابناء.
إلا أن مجرد الادراك المتزايد لطبيعة الأنماط الضارة، لا يكفي وحده لترسيخ أنماط التعامل السوية بين الأبناء . فالادراك عنصر واحد من خمسة عناصر تجنب الابناء الالتجاء الى المناورات الضارة في تعاملاتهم صغارا وكبارا .
من هذه العناصر الحرص عند التعامل مع الابناء على عدم ترسيخ صورة سلبية لذواتهم ، فكل شخص يحمل داخله صورة كاملة لنوع الانسان الذي يكونه . أهو قادر أم ضعيف ، مهم أم تافه ، وسيم أم قبيح .. وتعامل الاباء والامهات مع الابناء يساعد هذه الصورة الشخصية ، حتى لو تناقضت معالمها مع الأمر الواقع . اذا ظل الاب يردد للطفل في كل مناسبة (أنت غبي) يمكن أن تدخل هذه الصفة ضمن الصورة التي يرسمها لنفسه طوال أساسا في رسم حياته.
العنصر الثالث هو قدرة الفرد على التعبير عن مشاعره فالطفل أو البالغ يجب أن يكون قادرا على أن يعطي تعبيرا معقولا عن مشاعرة بطريقة معتدلة من المجتمع . يجب أن يكون قادرا على صياغة الكلمات التي تعبر عن شوقه أو غضبه أو خوفه ، حتى لا يضطر الى اختران هذه المشاعر ، مما يدخلها في نطاق لا شعوره، لتؤثر بعد ذلك على استجاباته دون أن يدرك ذلك.
أما العنصر الرابع فهو مساعدة الطفل على تحديد هويته ، الأمر الذي يعتبر من أهم مكونات شخصيته ، التي تؤثر في تعامله مع الآخرين . والطفل الذي تتحقق له علاقة صحية مع أبويه يميل الى أن يتبنى معاييرهما الاخلاقية ، ووجهة نظرهما الاجتماعية. أما اذا تعقدت العلاقة بين الطفل والابوين ، فان هذا سيؤدي الى رفض ومعارضة الطفل لطريقة الوالدين في الحياة ، صراحة أو خفية.
وأخيرا ، يبقى الحرص على خلق الاحساس بالاطمئنان لدى الطفل، وتجنيبه الشعور الدائم بالقلق ، والذي يمكن أن يتولد لديه نتيجة للمآزق التي يجد نفسه فيها عند تعامله مع الوالدين أو مع الآخرين في محيطه. فان مثل هذا القلق يبقى ملازما للطفل بعد أن يكبر ، ويؤثر على تعامله مع الآخرين بطريقة لاشعورية.